هل يمكن للحواسب الفائقة التي تحاكي قدرات العقل البشري أن تفوز في النهاية؟

Dec 27, 2021
Dr. Najwa Aaraj, Chief Researcher, Cryptography Research Centre and Acting Chief Researcher, Autonomous Robotics Research Centre.jpg

 

بقلم: الدكتورة نجوى الأعرج، كبيرة الباحثين في مركز بحوث التشفير، وكبيرة الباحثين بالإنابة في مركز بحوث الروبوتات المستقلة.

لطالما كان الدماغ البشري موضوعاً خاضعاً للبحث والتدقيق منذ بداية الزمن. وغالباً ما يتم التحفظ عند الإشارة إلى قدرتها الفريدة على تعدد المهام مع تميزها بخفة الحركة في الوقت الذي تحافظ فيه على معدل استهلاك طاقة قليلاً جداً (ما يقرب من 20 واط من الطاقة في المتوسط)، أي حوالي نصف الطاقة التي يحتاجها حاسوب محمول عادي و 0.00007٪ من الطاقة التي يستهلكها الحاسوب العملاق Fugaku. وهذا ليس كل شي! في الوقت الذي تحتاج فيه أجهزة الكمبيوتر العملاقة إلى أنظمة تبريد متطورة، فإن الدماغ البشري بإمكانه العمل بكفاءة عند 37 درجة مئوية. وبما أن تقنيات المعلومات والاتصالات تمثل حالياً ما يقرب من 20٪ إلى 35٪ من استهلاك الطاقة العالمي، وبالنظر إلى الزيادة الكبيرة في عدد الأجهزة المترابطة، فقد أصبح الاهتمام الآن متزايداً على التقنيات العصبية أو الحوسبة.

تشير الحوسبة العصبية إلى استخدام أنظمة تكامل وإدماج واسعة النطاق تحتوي على دوائر تناظرية إلكترونية تشبه البنى العصبية البيولوجية الموجودة في الجهاز العصبي. وتعمل هذه التقنية عن طريق محاكاة فيزياء الدماغ البشري وإنشاء ما يعرف باسم ""الشبكة العصبية المتصاعدة"" (SNN)، حيث تعمل الارتفاعات في الخلايا العصبية الإلكترونية الفردية على تنشيط الخلايا العصبية الأخرى أسفل السلسلة المتعاقبة. وهذا الأمر يشبه طريقة إرسال الدماغ أو استقباله للإشارات من الخلايا العصبية الحيوية التي تثير الحركة أو تتعرف عليها والأحاسيس في أجسامنا. أصبحت الحوسبة العصبية، وعلى وجه التحديد ""الشبكة العصبية المتصاعدة""، شائعة جداً بصفتها بديل موفر للطاقة لتنفيذ مهام الذكاء الاصطناعي القياسية، إذ تدفع الارتفاعات (Spikes) أو الأنشطة الثنائية الاتصالات والحوسبة في ""الشبكة العصبية المتصاعدة"" التي توفر ميزة تشغيل الأجهزة التي تعمل بحسب الحدث/النشاط. وهذا الأمر يجعل هذه التطبيقات مثيرة للاهتمام للاستخدامات الفورية، إذ يعد استهلاك الطاقة وعرض النطاق الترددي للذاكرة من العوامل ذات الأهمية.

وفي حين يجمع الدماغ البشري المعلومات من داخل الجسم ويرسل نبضات إلى الخلايا العصبية، تتعامل أجهزة الكمبيوتر التقليدية مع تحدي عنق الزجاجة بسبب الفصل بين وحدة المعالجة المركزية والذاكرة (الرام). ولكن لم يعد هذا هو الحال مع الحوسبة العصبية، إذ تتم الحوسبة بصورة تناظرية (من خلال الذاكرة). وتساهم الحوسبة العصبية أيضاً في تقليص زمن الاستجابة وحل مسألة استنزاف الطاقة، كما تفتح إمكانيات لإجراء العمليات الحسابية المعقدة.

يحاكي نموذج ""الشبكة العصبية المتصاعدة"" الشبكات العصبية الطبيعية الموجودة في الأدمغة الحية ويحاكي عمليات التعلم الطبيعية عن طريق رسم خرائط ديناميكية للنقاط الاشتباك العصبي بين الخلايا العصبية الاصطناعية، وذلك استجابةً لمختلف المنبهات. ويمكن للشبكات العصبية المتصاعدة نقل المعلومات بالطريقة الزمنية والمكانية تماماً كما يمكن للدماغ أن يفعل ذلكن بينما تعتمد الحوسبة التقليدية على الترانزستورات التي تكون إما قيد التشغيل أو الإيقاف.

الميزة الأساسية التي نسعى إلى تحقيقها من خلال الحوسبة العصبية هي السماح لأجهزة الكمبيوتر بالتفكير بشكل إبداعي ومرن في نفس الوقت، والبدء في التعرف على الأشخاص أو الأشياء التي لم تبرها من قبل وإعادة معايرة أفعالهم حسب الاقتضاء. ومن الواضح أننا ما زلنا بعيدين بعض الشيء عن مشاهدة مثل هذه الروبوتات العملاقة عالية الأداء، ولكن على الرغم من ذلك يمكن لتقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم معالجة العديد من التحديات بشكل أفضل من البشر، إلا أنها لا تزال غير قادرة على تحليل السبب والنتيجة والتحول بسرعة لاستيعاب التكوينات المتغيرة أو العناصر الجديدة للمشاكل.

ومع ذلك تبقى الأبحاث الحالية واعدة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، قامت شركة إنتل العام الماضي بعرض روبوت عصبي يمكنه رؤية الأشياء غير المعروفة والتعرف عليها بناء على مثال واحد فقط، على عكس النماذج التقليدية التي تتطلب تعليمات وبيانات مكثفة. كما أطلقت إنتل وجامعة كورنيل لأول مرة خوارزميات رياضية تستخدم على شريحة النص العصبية المطورة من إنتل ""Loihi""، والتي تكرر عن كثب كيف ""يشم"" الدماغ شيئاً ما. وتمكنت شريحة ""Loihi"" من تمييز ما يصل إلى 10 روائح مختلفة. ويمكن لتقنية الذكاء الاصطناعي هذه أن تُستخدَم في العديد من التطبيقات مثل أمن المطارات والكشف عن الدخان وأول أكسيد الكربون وتعزيز مراقبة الجودة في المصانع. وفي هذا السياق، عرضت شركة ""Accenture Labs"" لاحقاً نموذج الأوامر الصوتية للسيارات، مستفيدةً من تجربة قائمة على شريحة ""Loihi"" لجلب قدرات قيادة الصوت والإيماءات والمعلومات إلى المركبات دون استنزاف بطارياتها.

وعلى الرغم من أن الحوسبة العصبية كانت موجودة منذ الثمانينيات، إلا أنها اكتسبت في السنوات الأخيرة زخماً بسبب تطبيقات الطائرات المسيرة التي تستهلك الطاقة بشكل كبير، بالإضافة إلى الزيادة في ابتكارات الروبوتات المستقلة والتطور المتزايد لتقنيات التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي. ولكن لسوء الحظ، تعتمد تطورات الأجهزة المطلوبة لإطلاق مثل تقنيات الذكاء الاصطناعي هذه على بنية ""فون نيومان"" المعروفة باستهلاكها الكثير من الطاقة والوقت لتوصيل المعلومات بين الذاكرة والمعالجات.

وبدورها، تتوقع شركة جارتنر أن تقنيات الحوسبة التقليدية المبنية على بنية أشباه الموصلات القديمة سترتطم بجدار رقمي بحلول عام 2025، مجبرةً بذلك حصول تحول إلى نماذج جديدة تشمل الحوسبة العصبية. اما شركة ""إيميرجين"" للأبحاث، وهي شركة أبحاث واستشارات مشتركة تركز على القطاعات الناشئة المستقبلية، فتقول إن سوق المعالجة العصبية العالمي ستصل قيمته إلى 11.29 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2027.

قد لا تتمكن الشرائح القديمة في يومنا الحالي من نشر تقنيات الذكاء الاصطناعي على أجهزة إنترنت الأشياء بكفاءة، الأمر الذي يجعل الذكاء والاستدلال على الأجهزة أمراً صعباً عندما يتعلق الأمر بالمتانة ضد الهجمات العدائية وقابلية التفسير وكفاءة الطاقة، وكلها ضرورية في تمكين تشغيل المركبات ذاتية القيادة على سبيل المثال لا الحصر.

وفي الوقت الحالي، تحتاج أجهزة الكمبيوتر القياسية القائمة على بنية فون نيومان إلى أكثر من 10 أضعاف قوة الدماغ البشري، على الرغم من أنها لا تحل المشكلات بنفس درجة التعقيد التي يمكن للدماغ البشري القيام بها وليس بنفس مستوى الاستيعاب بكل تأكيد. تظهر مشكلة أخرى في إطار قابلية التفسير في مثل هذه السيناريوهات.

في سبيل إتمام مهام الحوسبة والبيانات المكثفة، يتعين على أجهزة الحافة، مثل الهواتف الذكية حالياَ، نقل البيانات إلى نظام مركزي قائم على السحابة، والذي يعالج البيانات ويغذي النتيجة مرة أخرى إلى الجهاز، مما يعرض البيانات لمخاطر الأمان والخصوصية. ويمكن لهذه البنية أن تتغلب على السبب الأساسي لوجود الأنظمة العصبية التي تهدف إلى استبعاد نقل البيانات وتمكين المعالجة من أن تتم داخل الجهاز نفسه. ومع السباق القائم نحو الحصول على خوارزميات أكثر تقدماً وكفاءات عصبية ناشئة، ستحتاج البنية التقليدية إلى إفساح المجال للبنية العصبية الحديثة.

ومن المرجح أن تطور الأنظمة العصبية أنظمة ذكاء اصطناعي أفضل لأنها أكثر راحة مع أنواع أخرى من المشكلات المعقدة. وتعد السببية والتفكير غير الخطي جانبين حديثين نسبياً في إطار أنظمة الحوسبة العصبية التي ستحتاج الآن إلى الإسراع لنشر الحلول الموجودة. ولا شك بأن هذه التقنية ستتحسن في المستقبل وستساهم في توسيع تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل كبير.

قد تتطلب التكنولوجيا العصبية حدوث نقلة نوعية في تطوير الأجهزة والبرمجيات، ولا بد لنا من العمل مع الأجهزة العصبية التي تتوافق مع الجيل الجديد من الذاكرات والتخزين وتكنولوجيا الاستشعار. مع مراعاة جوانب تعزيز هذه التكنولوجيا مستقبلاً وتقييم أداء البنى الجديدة لزيادة تعزيز قدراتها، من الضروري أيضاً إنشاء واجهة برمجة تطبيقات إلى جانب نماذج البرمجة واللغات.

وهذا الأمر سيساعدنا على الوصول أخيراً إلى أعماق تقنيات الذكاء الاصطناعي كما نعرفها والإجابة على السؤال الاساسي حول ما إذا كان العلماء سيكونون أقرب إلى تطوير الوعي الاجتماعي والأخلاق في الآلات من خلال محاكاة الدماغ البشري."